فصل: تفسير الآيات (6- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (6- 16):

قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما حقق لهم أمره تحقيق من هو على غاية الوثوق بما يقول، دل على ذلك بما لا يحتمل شكاً ولا وقفة أصلاً، فقال مقرراً لهم ومنكراً عليهم التساؤل بما ندب إليه من التأمل وقرر به من النظر في باهر آياته وغرائب مخلوقاته التي أبدعها من العدم دلالة تامة عظمية على كمال القدرة مع تمام الحكمة الموجب للقطع بكل ما نبهت عليه الرسل من الشرائع والبعث والجزاء بادئاً بما هم له أشد ملابسة وهو الظرف: {ألم نجعل} أي بما لنا من العظمة {الأرض مهاداً} أي فراشاً لكم موطئاً مذللاً يمكن الاستقرار عليه لتتصرفوا فيها كما شئتم {والجبال} أي تعرفون شدتها وعظمتها وعجزكم عن أقل شيء من أمورها {أوتاداً} تثبتها كما أن البيت لا يثبت إلا بأوتاده، قال الأفوه الأودي:
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ** ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

وذلك لئلا تميد بكم فإنها معلقة على فضاء العلم ممسكة بيد القدرة، فلولا الجبال لعظم ثقلها لأنها بمنزلة السفينة العالية الفارغة على متن البحر فهي في غاية الحركة لاسيما إذا عظمت الريح فإنها حينئذ لا يستقر عليها قائم ولا يثبت قاعد ولا نائم، فالجبال بمنزلة الأمتعة الثقيلة التي تنزلها في الماء فتحفظ عن كثرة التقلب فكيف يصح بوجه أن يتوقف في إخبار من هذه قدرته لاسيما إذا كان ذلك المخبر به مما ركز سبحانه أمره في الفطر الأولى وقرر صحته في العقول التقرير الأوضح الأجلى.
ولما ذكر بما في الظرف الذي هو فرشهم من الدلالة على تمام القدرة، أتبعه التذكير بما في المظروف وهو أنفسهم لتجتمع آيات الأنفس والآفاق فيتبين لهم أنه الحق فقال: {وخلقناكم} أي بما دل على ذلك من مظاهر العظمة {أزواجاً} طوالاً وقصاراً وحساناً ودماماً وذكراناً وإناثاً لجميع أصنافكم على تباعد أقطارهم وتنائي ديارهم لتدوم أنواعكم إلى الوقت الذي يكون فيه انقطاعكم.
ولما ذكر ما هو سبب لبقاء النوع، ذكر ما هو سبب لحفظه من إسراع الفساد فقال: {وجعلنا} أي بما لنا من العظمة {نومكم} الذي ركبنا البدن على قبوله {سباتاً} أي قطعاً عن الإحساس والحركة التي أتعبتكم في نهاركم مع الامتداد والاسترسال إراحة للقوى الحيوانية والحواس الجثمانية وإزاحة لكلالها مع أنه قاطع لكمال الحياة، فهو مذكر بالموتة الكبرى والاستيقاظ مذكر بالعبث، قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه.
ولما ذكر النوم، اتبعه وقته الأليق به مذكراً بنعمة الظرف الزماني بعد التذكير بالظرف المكاني، فقال دالاً بمظهر العظمة على عظمه: {وجعلنا الّيل} أي بعد ذهاب الضياء حتى كأنه لم يكن {لباساً} أي غطاء وغشاء ساتراً بظلمته ما أتى عليه عن العيون كما يستره اللباس لتسكنوا فيه عن المعاش {وجعلنا النهار} أي الذي آيته الشمس {معاشاً} أي وقتاً للتقلب الذي هو من أسباب التحصيل الذي هو من أسباب المعاش، وهو العيش ووقته وموضعه، مظهراً لما ستره الليل، فالآية من الاحتباك: ذكر اللباس أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً والمعاش ثايناً دليلاً على حذف ضده أولاً.
ولما ذكر المهاد وما فيه، أتبعه السقف الذي بدورانه يكون الوقت الزمان وما يحويه من القناديل الزاهرة والمنافع الظاهرة لإحياء المهاد ومن فيه من العباد فقال: {وبنينا} أي بناء عظيماً {فوقكم} أي عاماً لجميع جهة الفوق، وهي عبارة تدل على الإحاطة {سبعاً} أي من السماوات {شداداً} أي هي في غاية القوة والإحكام، لا صدع فيها ولا فتق، لا يؤثر فيها كر العصور ولا مر الدهور، حتى يأتي أمر الله بإظهار عظائم المقدور.
ولما ذكر السقف: ذكر بعض ما فيه من أمهات المنافع فقال دالا بمظهر العظمة على عظمها: {وجعلنا} أي مما لا يقدر عليه غيرنا {سراجاً} أي نجماً منيراً جدًّا {وهاجاً} أي هو مع تلألئه وشدة ضيائه حار مضطرم الاتقاد وهو الشمس، من قولهم: وهج الجوهر: تلألأ، والجمر: اتقد.
ولما ذكر ما يمحق الرطوبة بحرارته، أتبعه ما يطفئ الحرارة برطوبته وبرودته فينشأ عنه المأكل والمشرب، التي بها تمام الحياة ويكون تولدها من الظرف بالمهاد والسقف، وجعل ذلك أشبه شيء بما يتولد بين الزوجين من الأولاد، فالسماء كالزوج والأرض كالمرأة، والماء كالمني، والنبات من النجم والشجر كالأولاد فقال: {وأنزلنا} أي مما يعجز غيرنا {من المعصرات} أي السحائب التي أثقلت بالماء فشارفت أن يعصرها الرياح فتمطر كما حصد الزرع- إذا حان له أن يحصد، قال الفراء: المعصر، السحابة التي تتحلى بالمطر ولا تمطر كالمرأة المعصرة وهي التي دنا حيضها ولم تحض، وقال الرازي: السحائب التي دنت أن تمطر كالمعصرة التي دنت من الحيض {ماء ثجاجاً} أي منصباً بكثرة يتبع بعضه بعضاً، يقال: ثجه وثج بنفسه.
ولما ذكر بدايته، أتبعها نهايته فقال: {لنخرج} أي بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب {به} أي الماء تسبيباً {حبًّا} أي نجماً ذا حب هو مقصوده لأنه يقتاته العباد، صرح به لأنه المقصود وبدأ به لأنه القوت الذي به البقاء كالحنطة والشعير وغيرهما {ونباتاً} يتفكهون ويتنزهون فيه وتعتلفه البهائم.
ولما كان من المشاهد الذي لا يسوغ إنكاره أن في الأرض من البساتين ما يفوت الحصر، عبر بجمع القلة تحقيراً له بالنسبة إلى باهر العظمة ونافذ الكلمة فقال: {وجنات} أي بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره {ألفافاً} أي ملتفة الأشجار مجتمعة بعضها إلى بعض من شدة الري، جمع لف كجذع، قال البغوي: وقيل: هو جمع الجمع، يقال: جنة لفاء، وجمعها لف- بضم اللام، وجمع الجمع ألفاف.
وتضمن هذا الذي ذكره المياه النابعة الجارية والواقفة، فاكتفى بذكره عن ذكرها، قال مقاتل: وكل من هذا الذي ذكر أعجب من البعث. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)}
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم إنكار البعث والحشر، وأراد إقامة الدلالة على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه تعالى قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات، وذلك لأنه مهما ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث، وإنما أثبت هذين الأصلين بأن عدد أنواعاً من مخلوقاته الواقعة على وجه الإحكام والإتقان، فإن تلك الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة، ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم، ومتى ثبت هذان الأصلان وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض، ثبت لا محالة كونه تعالى قادراً على تخريب الدنيا بسمواتها وكواكبها وأرضها، وعلى إيجاد عالم الآخرة، فهذا هو الإشارة إلى كيفية النظم.
واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا من عجائب مخلوقاته أموراً فأولها: قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا} والمهاد مصدر، ثم هاهنا احتمالات أحدها: المراد منه هاهنا الممهود، أي ألم نجعل الأرض ممهودة وهذا من باب تسمية المفعول بالمصدر، كقولك هذا ضرب الأمير وثانيها: أن تكون الأرض وصفت بهذا المصدر، كما تقول: زيد جود وكرم وفضل، كأنه لكماله في تلك الصفة صارعين تلك الصفة وثالثها: أن تكون بمعنى ذات مهاد، وقرئ {مهداً}، ومعناه أن الأرض للخلق كالمهد للصبي، وهو الذي مهد له فينوم عليه.
واعلم أنا ذكرنا في تفسير سورة البقرة عند قوله: {جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} [البقرة: 22] كل ما يتعلق من الحقائق بهذه الآية.
وثانيها قوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)} أي للأرض كي لا تميد بأهلها، فيكمل كون الأرض مهاداً بسبب ذلك قد تقدم أيضاً.
وثالثها قوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)}
وفيه قولان: الأول: المراد الذكر والأنثى كما قال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45]، والثاني: أن المراد منه كل زوجين وكل متقابلين من القبيح والحسن والطويل والقصير وجميع المتقابلات والأضداد، كما قال: {وَمِن كُلّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] وهذا دليل ظاهر على كمال القدرة ونهاية الحكمة حتى يصح الابتلاء والامتحان، فيتعبد الفاضل بالشكر والمفضول بالصبر ويتعرف حقيقة كل شيء بضده، فالإنسان إنما يعرف قدر الشباب عند الشيب، وإنما يعرف قدر الأمن عند الخوف، فيكون ذلك أبلغ في تعريف النعم.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)}
ورابعها: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} طعن بعض الملاحدة في هذه الآية فقالوا: السبات هو النوم، والمعنى: وجعلنا نومكم نوماً، واعلم أن العلماء ذكروا في التأويل وجوهاً أولها: قال الزجاج: {سُبَاتاً} موتاً والمسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة ودليله أمران إحداهما: قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل} [الأنعام: 60] إلى قوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} [الأنعام: 60] والثاني: أنه لما جعل النوم موتاً جعل اليقظة معاشاً، أي حياة في قوله: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} [النبأ: 11] وهذا القول عندي ضعيف لأن الأشياء المذكورة في هذه الآية جلائل النعم، فلا يليق الموت بهذا المكان وأيضاً ليس المراد بكونه موتاً، أن الروح انقطع عن البدن، بل المراد منه انقطاع أثر الحواس الظاهرة، وهذا هو النوم، ويصير حاصل الكلام إلى: إنا جعلنا نومكم نوماً وثانيها: قال الليث: السبات النوم شبه الغشي يقال سبت المريض فهو مسبوت، وقال أبو عبيدة: السبات الغشية التي تغشى الإنسان شبه الموت، وهذا القول أيضاً ضعيف، لأن الغشي هاهنا إن كان النوم فيعود الإشكال، وإن كان المراد بالسبات شدة ذلك الغشي فهو باطل، لأنه ليس كل نوم كذلك ولأنه مرض فلا يمكن ذكره في أثناء تعديد النعم وثالثها: أن السبت في أصل اللغة هو القطع يقال سبت الرجل رأسه يسبته سبتاً إذا حلق شعره، وقال ابن الأعرابي في قوله: {سُبَاتاً} أي قطعاً ثم عند هذا يحتمل وجوهاً الأول: أن يكون المعنى: وجعلنا نومكم نوماً متقطعاً لا دائماً، فإن النوم بمقدار الحاجة من أنفع الأشياء.
أما دوامه فمن أضر الأشياء، فلما كان انقطاعه نعمة عظيمة لا جرم ذكره الله تعالى في معرض الإنعام الثاني: أن الإنسان إذا تعب ثم نام، فذلك النوم يزيل عنه ذلك التعب، فسميت تلك الإزالة سبتاً وقطعاً، وهذا هو المراد من قول ابن قتيبة: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي راحة، وليس غرضه منه أن السبات اسم للراحة، بل المقصود أن النوم يقطع التعب ويزيله، فحينئذ تحصل الراحة الثالث: قال المبرد: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي جعلناه نوماً خفيفاً يمكنكم دفعه وقطعه، تقول العرب: رجل مسبوت إذا كان النوم يغالبه وهو يدافعه، كأنه قيل: وجعلنا نومكم نوماً لطيفاً يمكنكم دفعه، وما جعلناه غشياً مستولياً عليكم، فإن ذلك من الأمراض الشديدة، وهذه الوجوه كلها صحيحة.
وخامسها قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)}
قال القفال: أصل اللباس هو الشيء الذي يلبسه الإنسان ويتغطى به، فيكون ذلك مغطياً له، فلما كان الليل يغشى الناس بظلمته فيغطيهم جعل لباساً لهم، وهذا السبت سمي الليل لباساً على وجه المجاز، والمراد كون الليل ساتراً لهم.
وأما وجه النعمة في ذلك، فهو أن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عدو، أو بياتاً له، أو إخفاء مالا يحب الإنسان إطلاع غيره عليه، قال المتنبي:
وكم لظلام الليل عندي من يد ** تخبر أن المانوية تكذب

وأيضاً فكما أن الإنسان بسبب اللباس يزداد جماله وتتكامل قوته ويندفع عنه أذى الحر والبرد، فكذا لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم يزيد في جمال الإنسان، وفي طراوة أعضائه وفي تكامل قواه الحسية والحركية، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني، وأذى الأفكار الموحشة النفسانية، فإن المريض إذا نام بالليل وجد الخفة العظيمة.
وسادسها قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)}
في المعاش وجهان أحدهما: أنه مصدر يقال: عاش يعيش عيشاً ومعاشاً ومعيشة وعيشة، وعلى هذا التقدير فلابد فيه من إضمار، والمعنى وجعلنا النهار وقت معاش والثاني: أن يكون معاشاً مفعلاً وظرفاً للتعيش، وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار، ومعنى كون النهار معاشاً أن الخلق إنما يمكنهم التقلب في حوائجهم ومكاسبهم في النهار لا في الليل.
وسابعها قوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)} أي سبع سموات شداداً جمع شديدة يعني محكمة قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان، لا فطور فيها ولا فروج، ونظيره {وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] فإن قيل لفظ البناء يستعمل في أسافل البيت والسقف في أعلاه فكيف قال: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً}؟ قلنا البناء يكون أبعد من الآفة والانحلال من السقف، فذكر قوله: {وَبَنَيْنَا} إشارة إلى أنه وإن كان سقفاً لكنه في البعد عن الانحلال كالبناء، فالغرض من اختيار هذا اللفظ هذه الدقيقة.
وثامنها قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)}
وثامنها: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} كلام أهل اللغة مضطرب في تفسير الوهاج، فمنهم من قال الوهج مجمع النور والحرارة، فبين الله تعالى أن الشمس بالغة إلى أقصى الغايات في هذين الوصفين، وهو المراد بكونها وهاجاً، وروى الكلبي عن ابن عباس أن الوهاج مبالغة في النور فقط، يقال للجوهر إذا تلألأ توهج، وهذا يدل على أن الوهاج يفيد الكمال في النور، ومنه قول الشاعر يصف النور:
نوارها متباهج يتوهج

وفي كتاب الخليل: الوهج، حر النار والشمس، وهذا يقتضي أن الوهاج هو البالغ في الحر واعلم أن أي هذه الوجود إذا ثبت فالمقصود حاصل.
أما المعصرات ففيها قولان: الأول: وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس، وقول مجاهد، ومقاتل والكلبي وقتادة إنها الرياح التي تثير السحاب ودليله قوله تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً} [الروم: 48] فإن قيل على هذا التأويل كان ينبغي أن يقال وأنزلنا بالمعصرات، قلنا: الجواب: من وجهين الأول: أن المطر إنما ينزل من السحاب، والسحاب إنما يثيره الرياح، فصح أن يقال هذا المطر إنما حصل من تلك الرياح، كما يقال هذا من فلان، أي من جهته وبسببه الثاني: أن من هاهنا بمعنى الباء والتقدير، وأنزلنا بالمعصرات أي بالرياح المثيرة للسحاب ويروى عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعكرمة أنهم قرأوا {وأنزلنا بالمعصرات} وطعن الأزهري في هذا القول، وقال الأعاصير من الرياح ليست من رياح المطر، وقد وصف الله تعالى المعصرات بالماء الشجاج وجوابه: أن الإعصار ليست من رياح المطر، فلم لا يجوز أن تكون المعصرات من رياح المطر؟
القول الثاني: وهو الرواية الثانية عن ابن عباس واختيار أبي العالية والربيع والضحاك أنها السحاب، وذكروا في تسمية السحاب بالمعصرات وجوهاً أحدها: قال المؤرخ: المعصرات السحائب بلغة قريش وثانيها: قال المازني يجوز أن تكون المعصرات هي السحائب ذوات الأعاصير فإن السحائب إذا عصرتها الأعاصير لابد وأن ينزل المطر منها وثالثها: أن المعصرات هي السحائب التي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك: أجز الزرع إذا حان له أن يجز، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض، وأما الثجاج فاعلم أن الثج شدة الانصباب يقال: مطر ثجاج ودم ثجاج أي شديد الانصباب.
واعلم أن الثج قد يكون لازماً، وهو بمعنى الانصباب كما ذكرنا، وقد يكون متعدياً بمعنى الصب وفي الحديث: «أفضل الحج العج والثج». أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى، وكان ابن عباس مثجاً أي يثج الكلام ثجاً في خطبته وقد فسروا الثجاج في هذه الآية على الوجهين، وقال الكلبي ومقاتل وقتادة الثجاج هاهنا المتدفق المنصب، وقال الزجاج معناه الصباب كأنه يثج نفسه أي يصب.
وبالجملة فالمراد تتابع القطر حتى يكثر الماء فيعظم النفع به.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
كل شيء نبت من الأرض فإما أن لا يكون له ساق وإما أن يكون، فإن لم يكن له ساق فإما أن يكون له أكمام وهو الحب وإما أن لا يكون له أكمام وهو الحشيش وهو المراد هاهنا بقوله: {ونباتاً} وإلى هذين القسمين الإشارة بقوله تعالى: {كلوا وارعوا أنعامكم} [طه: 54] وأما الذي له ساق فهو الشجر فإذا اجتمع منها شيء كثير سميت جنة، فثبت بالدليل العقلي انحصار ما ينبت في الأرض في هذه الأقسام الثلاثة، وإنما قدم الله تعالى الحب لأنه هو الأصل في الغذاء، وإنما ثنى بالنبات لاحتياج سائر الحيوانات إليه، وإنما أخر الجنات في الذكر لأن الحاجة إلى الفواكه ليست ضرورية.
المسألة الثانية:
اختلفوا في ألفافاً، فذكر صاحب (الكشاف) أنه لا واحد له كالأوزاع والأخياف، والأوزاع الجماعات المتفرقة والأخياف الجماعات المختلطة.
وكثير من اللغويين أثبتوا له واحدًّا، ثم اختلفوا فيه، فقال الأخفش والكسائي: واحدها لف بالكسر، وزاد الكسائي: لف بالضم، وأنكر المبرد الضم، وقال: بل واحدها لفاء.
وجمعها لف، وجمع لف ألفاف، وقيل يحتمل أن يكون لفيف كشريف وأشراف نقله القفال رحمه الله، إذا عرفت هذا فنقول قوله: {وجنات ألفافاً} أي ملتفة، والمعنى أن كل جنة فإن ما فيها من الشجر تكون مجتمعة متقاربة، ألا تراهم يقولون امرأة لفاء إذا كانت غليظة الساق مجتمعة اللحم يبلغ من تقاربه أن يتلاصق.
المسألة الثالثة:
كان الكعبي من القائلين بالطبائع، فاحتج بقوله تعالى: {لنخرج به حبًّا ونباتاً} وقال: إنه يدل على بطلان قول من قال إن الله تعالى لا يفعل شيئاً بواسطة شيء آخر.
اعلم أن التسعة التي عددها الله تعالى نظراً إلى حدوثها في ذواتها وصفاتها، ونظراً إلى إمكانها في ذواتها وصفاتها تدل على القادر المختار، ونظراً إلى ما فيها من الإحكام والإتقان تدل على أن فاعلها عالم، ثم أن ذلك الفاعل القديم يجب أن يكون علمه وقدرته واجبين، إذ لو كانا جائزين لافتقر إلى فاعل آخر ويلزم التسلسل وهو محال، وإذا كان العلم والقدرة واجبين وجب تعلقهما بكل ما صح أن يكون مقدوراً ومعلوماً وإلا لافتقر إلى المخصص وهو محال، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات، وقد ثبت الإمكان وثبت عموم القدرة في الجسمية فكل ما صح على واحد منها صح على الآخر، فكما يصح على الأجسام السلفية الانشقاق والانفطار والظلمة وجب أن يصح ذلك على الأجسام، وإذا ثبت الإمكان وثبت عموم القدرة والعلم، ثبت أنه تعالى قادر على تخريب الدنيا، وقادر على إيجاد عالم آخر، وعند ذلك ثبت أن القول بقيام القيامة ممكن عقلاً وإلى هنا يمكن إثباته بالعقل، فأما ما وراء ذلك من وقت حدوثها وكيفية حدوثها فلا سبيل إليه إلا بالسمع، ثم إنه تعالى تكلم في هذه الأشياء بقوله: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً}. اهـ.